هل تمتلك المدن شهوات كالانسان؟ هل تشتهي مدينة ما أن ترقد بسلام في أعمق بقاع الأرض بعيداً هناك وتتمتع بشمسها وهوائها ورهبانها ونخيلها وسكانها الطيبين؟ أريحا، مدينة القمر كما يعني اسمها. اختارت أن تطل من بعيد بهدوء على الكون لا تبغي شيئاً سوى السكون والصمت. فهل كتب لها ذلك؟ اختارت أن تكون في المكان الأكثر انخفاضاً عن مستوى سطح البحر في العالم ، اختارت الابتعاد لكن الصخب لم يتركها وشأنها.
أريحا هي المدينة الأولى التي سكنها الانسان منذ الأزل وما زال حتى اليوم. بدأ هذا منذ العصر الحجري الذي ترك آثاره حزينة كابية فيها. بالتحديد منذ عشرة آلاف سنه قبل الميلاد، حين كان ابن أريحا يمتهن الصيد، وسيلته الوحيده للحياة. ثم تطور إلى أن بدأ بصنع الفخار بمهارة وابتكار.
يسمى ابن أريحا بالريحاوي . والريحاوي يشبه مدينته . ينشد السكون والتأمل، كالقمر تماماً، ولا يهتم بالنجومية والصخب. لهذا اسمرالريحاوي ألفين إلى ثلاثة آلاف سنة لينتقل إلى مرحلة الزراعة. فأريحا الجميلة فردت تربتها برحابة لتغدق على ساكنها بكرم. بدأت الزراعة وقتها بالقمح والشعير، واستمرت أريحا حتى اليوم جنة البرتقال والحمضيات وما طاب منها.
كأني أرى أريحا تبحث عن سكينة ما، تتشبث بها، لكنها لا تنعم بها أبدا.
سكنها الكنعانيون في قديم الزمان. ثم تناوب عليها الغزاة. بداية من الهكسوس ثم بني اسرائيل بقيادة هوشع بن نون، والرومان، وهكذا كثيرون إلى أن جاء الصليبيون بعد سنين طوال... غزوات وتدمير ووقتل، وبناء واستمرارية. إنه قدر أريحا التي ذكرت في التوراة والإنجيل وتتالت الحكايات.
تقول التوراة إن اليهود حين نفاهم فرعون، وبعد تيههم لأربعين عاماً في الصحراء، وصلوا الى أريحا وهي بوابة فلسطين، فاستعصت عليهم أسوارها المنيعة التي بناها الكنعانيون. فأمرهم ربهم بأن ينفخ سبعة من كبار الكهنة في أبواقهم الى أن تسقط الأسوار وحين فعلوا، تساقطت الحجارة ودخلوا أريحا. واستباحوا أهلها وسكانها. أما الدلائل الأركيولوجية فتشير إلى غير ذلك. إذ لا دليل على أي عنف أو مجازر أو هدم قسري للاسوار.
وهناك قول آخر في العهد القديم بأن اليهود حين استعصت عليهم أسوار أريحا، قام قائدهم يوشع بن نون بصب اللعنة عليها وقال: "ملعون أمام الرب الرجل الذي يقوم ويبني هذه المدينة أريحا. ببكره يؤسسها، وبصغيره ينصب أبوابها". وبهذا آمن اليهود بأن كل من يقوم بإعادة بنائها ملعون، يفقد بِكره كما يفقد أبناءه. لهذا نرى الآن أن أريحا تنعم بعدم وجود مستوطنات إسرائيلية بها. او حتى أطماع سياسية تجاهها.
حمتها أسوارها المنيعة التي ما فتئت تعلو وتهدم وتبنى من جديد ولا نشاهد سوى آثار باقية وحيدة تنشد السكون. أما الإنجيل فيذكر تلك الشجرة "شجرة الجميز" التي صعد اليها رجل يدعى زاخاروس حين مر سيدنا عيسى في أريحا، إذ ازدحم الناس من كل حدب وصوب ليروا النبي الجديد ولم يستطع زاخاروس أن يراه بسبب قصر قامته، فتسلق شجرة الجميز الخالدة وشاهد الرسول المنشود.
في طفولتي ، في أريحا التي دخلت على العالم في رحابها الجميلة، كان بيتنا مهبط زوار عرب وأجانب، وكان والدي يصحبنا جميعا لنشاهد آثار الأمويين في النويعمة شمال اريحا. حيث تعانق أشجار النخيل والموز جنبات الطريق.
الآثار تتناثر هنا وهناك. أما أحلاها إلى قلبي -الصغير آنذاك- لوحة موزاييك مذهلة ستصاحبني طوال عمري، لوحة متقنه لشجرة خضراء فارهة ما زالت تحتفظ بلونها رغم طول السنين. تحمل رماناً طازجاً بين أغصانها. نرى في أسفل يمينها، أسداً ينقض ليصهر غزالة وديعة تحاول الهرب من بين براثنه، وفي الناحية الأخرى من الشجرة غزالان آخران يتجاهلان ما يحدث لأختهما أو قد يكونا غافلين عنها منشغلين بالبحث عن الطعام، يضنيهما الحر ويحميهما ظل الشجرة. تلك الشجرة التي لا يماثلها شيء كانت ترتبط دائماً في ذاكرتي بأشجار الجنة التي تتحدث عنها معلمة الدين.
لا شيء يماثل أريحا.
أما المتعة فكانت مرافقة أبي لزيارة مقام نبي آخر قرب أريحا هو النبي موسى. كان موسم النبي موسى يعتبر موسماً شعبياً لكل ساكني فلسطين ، تأتي إليه النساء وتتسلق التلة لتصل إلى قبره وتطلب إليه ان يرزقها بالذرية الصالحة التي حرمت منها. وكان الآباء يصطحبون أبناءهم ليقصوا لهم شعورهم، حيث ينتشر عشرات الحلاقين يحملون أدواتهم القليلة ويمارسون مهنتهم في منطقة تجلب البركة للرؤوس الحليقة ولمن يقصون شعورها.
كنت أنتظر هذا الموسم بشغف، لآكل من حلوى النبي موسى التي لا مثيل لمذاقها في العالم.
يا أريحا، يا مدينة القمر. أنت لا مثيل لك في العالم.
هناك أيضا يرقد جبل قرنطل بثبات، يضرب جذوره في أعماق الأرض باحثاً عن سكون دائم. غير عابئ بالحفر الكثيرة التي صنعها الإنسان في صخوره باحثاً عن مأوى وملاذ. الآن يسكن هناك في الأعالي رهبان بلحى طويلة وملابس سوداء وقبعات خاصة بهم وطيبة بالغة تلفهم. في طفولتي كنت أراهم يطيرون ليصلوا إلى قمة الجبل يحملون شماس ملونة. ويطيرون، ليهبطوا بسلام في بيوتهم البعيدة.
عندما كانت المملكة الأردنية تضم أريحا والضفة الغربية تحت نفوذها. كانت أريحا ساكنة تنام في هدوء، إلى أن أقيم مهرجان البرتقال، والذي افتتحه الملك حسين بنفسه. يومها تزينت المدينة بالبرتقال، لبسته أساور في أيدي سكانها، ومن زهوره تيجان على رؤوس صباياها. لا أنسى ذاك اليوم الذي اصطففنا فيه على جنبات الطرق نشاهد العربات تسير بهدوء وقد امتلأت بالبرتقال بأشكاله وأنواعه المختلفة. وحينها أقيم حفل كبير، دبكت فيه الفتيات والشباب ورقصن رقصهن الشعبي بأثوابهن السوداء المطرزة بالزهور الحمر الزاهية والفروع الخضراء المشرقة.
لا مثيل لك يا أريحا....
طبعا أهملت المدينة دائماً سواء في عهد الأردن أو في عهد السلطة الفلسطينية.
بعد سنوات طوال من التهجير القسري لأهل فلسطين كلها وليس أريحا فقط . زرتها لأجد أختي باستقبالي عند الجسر. فجسر التهجير الذي بات الاسرائيليون يتحكمون بمن يدخل عبره ويخرج منه بات هو الحد والمدخل لمدينتي الصغيرة.
اصطحبتني أختي إلى بيتنا الصغير على كتف الواد كما كنا نسميه. ذلك البيت الذي ولدت فيه. كانت حديقته تضحك بانتظاري، وأشجار البرتقال تحمل ثمارها لتعيد ذاك الطعم المفقود في فمي. أما أزهار الورد البلدي فرقصت معي بهجة وفرحاً.
دخلت إلى الغرفة التي ولدت بها ، شاهدت بلاطها الحاني الموشوم بالأبيض والأسود بمربعات كبيرة وصغيرة.
لا مثيل لك يا أريحا.
فلاحو أريحا نشطاء ، يزرعون الآن القمح والموز والبرتقال والبوملي. ولكنهم مهملون تماماً. لا أحد الان يأبه لإقامة مدارس لتعليم أبنائهم أو مشاريع لمستشفيات أو لمستقبل قادم.تركت أريحا اليوم ولكنها لم تترك بسلام كما كانت تنشد هي نفسها. تركت لتظل مشروعاً للتفاوض والابتزاز والمكاسب السياسية. لكن جبل قرنطل بقي كما هو، والجامع الكبير ما زال ينتظر. وكنيسة اللاتين والروم أيضاً قائمة تنتظر قدوماً آخر للمسيح.